RSS

ضيعت مستقبل حياتى – تحليل موسيقى

23 جويلية
سيد درويش

سيد درويش

أدوار سيد درويش – تحليل موسيقى

دور ضيعت مستقبل حياتي

مقام شورى – لحن سيد درويش

تخليل موسيقي: د. أسامة عفيفي

استعراض المقام

m-shurie

مقام الشورى مقام شائع الاستخدام فى الموسيقى العربية وهو فرع من مقام البياتى الأكثر شيوعا ، ولكن غالبا كتنويع جذاب على البياتى خاصة قبل الختام ، بينما استخدامه كمقام أساسى يظل نادرا والمقام يبدأ من الأساس وهو الدرجة الثانية أى الدوكاه (رى) صعودا لنهاية السلم فى جواب الدرجة أى الثامنة ويتألف من جنسين رباعيين يتكون كل منهما من 4 نغمات وهما البياتى على أساس المقام والحجاز على رابعته (صول) المسماة بالنوا فى الموسيقى الشرقية ، ولما كان سلم الحجاز الأصلى يرتكز على درجة الدوكاه (رى) فقد سمى هذا الجنس بحجاز النوا ، أى مقطع يحتفظ بأبعاد نغمة الحجاز مرتكزا على درجة النوا ، ويقسم الجنسان نغمات السلم السبع بينما يشتركان فى النوا كنهاية للأول وبداية للثانى ومقام الشورى يوحى بشدة التأثر فى مقطعه الحجازى بينما يعطى انطباعا تقريريا فى مقطعه البياتى ، والاثنان معا يؤلفان مادة جيدة للإيحاء بالقبول بالواقع رغم قسوته

فى البيانين الأول والثانى طريقة كتابة سلم المقام كما درجت عليه كتابة النوتة الموسيقية الشرقية فى كثير من المراجع ، وهى طريقة سهلة لتوضيح السلم لكنها لا تتوافق مع الأسلوب العالمى ، والطريقة الأكاديمية الصحيحة لكتابة المقام هى نسبته أولا إلى سلم أكاديمى معروف ثم إجراء التغييرات اللازمة فى مجرى النص الموسيقى وليس فى المفتاح الأساسى ، أى نسبة المقام إلى أقرب سلم ماجير أو مينير له ثم إضافة العلامات الإضافية كلما لزم

maqam_shurie

دور ضيعت مستقيل حياتى – مقام شـورى

لحـــن وأداء ســـيد درويـــش

  • ضيعت مستقبل حياتى فى هواك … وازداد على اللوم وكتر البغددة
  • حتى العوازل قصدهم دايما جفاك … وانا ضعيف ما اقدرش احمل كل ده
  • ان كان جفاك يرضى علاك وانا ف حماك … أصل الحبيب ما يكونش أحسن من كده
  • علمتنى يا نور عيونى الامتثال … واحتار دليلى بين تيهك والجوى
  • كنت افتكر حبك يزودنى كمال … خيبت ظنى والهوى ما جاش سوا
  • تبقى سبب كل التعب ونسيت مغرمك … ده اللى انكتب فوق الجبين مالوش دوا

استعراض اللحن

وقد اختار سيد درويش هذا المقام لهذه الإيحاءات التعبيرية ، ولا يغيب عن الذهن أن هدفه الأول فى الموسيقى والتلحين كان التعبير ، ولا شك أنه قد وفق فى ذلك الاختيار فإن كلمات النص مليئة بالشكوى من أعاجيب هذا اللحن أنه أصبح أول وأكبر إشارة إلى المقام ، فإذا سالت موسيقيا عما إذا كان يعرف لحنا على سبيل المثال من مقام الشورى تجده يجيبك فورا ” ضيعت مستقبل حياتى لسيد درويش” !

المقـــدمة

مقدمة الدور الموسيقية مختصرة كما فى كل ألحان سيد درويش ، ومع ذلك فهى تضم كل عناصر المقام وتظهر مكوناته جيدا ، وهى تتكون من جزءين

يبدأ الجزء الأول بحركتين الأولى تبدأ أعلى السلم بالجواب فى تنازل سريع على حجاز النوا والثانية تبدأ من وسط السلم أى النوا مارة بالدرجات السفلى لتنتهى على الأساس ، وبهما يتم استعراض المقام فى ثوان ، وبالتحديد فى 4 ثوان نكون قد علمنا طريق اللحن ولونه ومقامه ونغماته

وكعادة سيد درويش فى التأليف الموسيقى يؤلف هاتين الحركتين فى صيغة تحاور رغم أن حركتهما الظاهرية تتابع سلمى ، وتتكون كل حركة من جملتين نستطيع تتبع تحاور أصغر بينهما ، فإذا نظرنا إلى الصورة الكلية أمكننا اكتشاف علاقات توازى وتقابل بين الحركات والجمل تعمل كلها لتوظيف بناء درامى كامل فى المقطع الأول من المقدمة وهى تلخص اللحن كله

المقطع الثانى من المقدمة يتكون من حركتين أيضا ، الأولى ما يسمى فى الموسيقى بتصفية المقام أى توجيه اللحن نحو الركوز على الأساس لتركيز النغمة ، والثانية هى تمهيد للتفصيل القادم فى بداية الغناء ، فبداية النص صارخة بكارثة حلت بصاحبها ولا يناسبها البدايات الاستهلالية المتأنية على بداية سلم المقام ، والملحن يريد التعبير عن الصرخة ولن يعبر عن ذلك بصوت خفيض بل بأعلى صوت ممكن قائلا ضيعت مستقبل حياتى ، ولذا يتصاعد بالتمهيد الموسيقى حتى قمة السلم ليطلق صيحته من أعلى مكان!

المذهـــب

البنـــاء اللحنى

يبدأ الغناء من بإطلاق الصيحة الأولى من جواب السلم بجملة ضيعت مستقبل حياتى تنحدر فى تتابع قصير على حجاز النوا الحزين يتبعه وقفة قصيرة على ثالثة المقام ، وتؤكد الوقفة برد موسيقى سريع ، ثم يمتد اللحن بكلمة فى هواك عند امتدادها اللفظى الطبيعى أى مع مد الألف ويشير هنا إشارة سريعة فى درجة واحدة ولمرة واحدة إلى المقام الأصلى (البياتى) المشتق منه مقام اللحن بالصعود إلى الخامسة الطبيعية كما فى البياتى بدلا من خامسة الشورى الناقصة ، ويعبر عن تلك الإشارة موسيقيا بفتح الدرجة

ليس من المعتاد عند التلحين من مقام الشورى الوقوف على ثالثة المقام فضلا عن تأكيده لأنها ليست من درجاته الأساسية ، فهو مكون من جنسين رباعيين الدرجة الرابعة هى الواسط ينهما وهى التى ينبغى عندها الوقوف بجملة ما صاعدة أو هابطة ، فلماذا اختار سيد درويش التوقف هنا وتأكيده؟ الواقع أنه ينظر إلى الحركة التالية فهو يريد أن يلمس المقام الأصلى ( البياتى) الأكثر استقرارا من الشورى لتقوية ختام الجملة ، وهو سوف يفعل ذلك فى الحركة التالية ، فمهد لذلك تمهيدا خفيا بالوقوف على الثالثة التى هى من درجات البياتى الأساسية حيث أن للبياتى جنس ثلاثى خفى هو الجهاركاه الذى يستقر على ثالثة البياتى ( فا) وهو جنس شبيه بمقام العجم أو الفا ماجير ، فإذا حدث الوقوف عليها تحددت أبعاده تلقائيا بثالثة الفا وخامستها ، أى بدرجة لا الطبيعية ودرجة دو ، أى التكوين فا لا دو ، وهو تكوين يسمى فى الموسيقى الغربية بالأكورد ، فدعوة فا ماجير للحضور هنا هى دعوة لفتح درجة لا وهو ماحدث بعد لحظة ، ويمكن تخيل أن هناك بديلين غير هذا التصرف ، الأول عدم لمس البياتى مطلقا ، والثانى الانتقال مباشرة إلى فتح درجة لا دون ذلك التمهيد لكن هذا الأسلوب غير مستساغ ولا تقبله الأذن

والدليل على أن سيد درويش تعمد ذلك ولم يأت لحنه بالصدفة أنه استخدم درجة دو المنخفضة كبداية الرد الموسيقى الصاعد نحو الهدف المطلوب تأكيده وهو الفا ، ثم عاد للركوز عليها لبرهة بعد أن تمت جملة البياتى ، وهذه الدرجة كما أشرنا هى خامسة الفا ماجير فى الأكورد فا لا دو أى من أساسياته بينما لا تتمتع بأى استقرار فى سلم الشورى

هناك مثال لهذا التطبيق فى لحن آخر من مقام الشورى ربما يكون أقرب إلى المستمع وهو الكوبليه الثانى من أغنية أم كلثوم “هوه صحيح الهوى غلاب” لحن زكريا أحمد ، والذى يبدأ بالكلمات ” نظرة وكنت احسبها سلام” ، التمهيد الموسيقى والغناء يدرجان على المقام مع التركيز على جنس حجاز النوا فى جميع الحركات وتوقف التمهيد الموسيقى على النوا ثم بداية الغناء بنفس التركيز بحيث يخيل إليك أنه سيقتصر على الحجاز ، وعدم التوقف إلا فى نهاية المقطع “… وكلام” على أساس الشورى ، ثم العودة للدوران حول محور النوا أى الرابعة إلى أن تجئ جملة ” أقول يا ربى زدنى كمان” فيتوقف اللحن تماما على الثالثة .. لماذا؟ لأن الحركة التالية هى العودة للمذهب من مقام الصبا وهو مقام الأغنية الأصلى ، وفيه درجة لا أى الخامسة مفتوحة أى طبيعية ، لذا وجب التوقف على الثالثة قبل الوصول إليها حتى يأتى الرجوع للصبا طبيعيا بغير تكلف أو نشاز

عودة إلى سيد درويش ، بعد إتمام تقوية الختام بهذا التكوين يعود اللحن إلى التصفية على مقام الشورى بدءا من النوا فى كلمة ” اللوم ” مؤكدا بذلك مقام اللحن لأن العبرة فى تسمية مقام أى لحن هى بما ينتهى إليه وليس بما يبدأ به

التعامل مع الألفاظ

ذكرنا أن سيد درويش استخدم المد الغنائى عند المد اللفظى الطبيعى فى حرف الألف من كلمة هواك ، وهذا من خصائص التلحين عند سيد درويش فهو يخلص لنطق الحروف والكلمات ولا نسمع له مد أو شد فى غير موضعه ، وإذا استمعنا إلى أول كلمة فى اللحن “ضيعت” نجده يركز على التشديد الطبيعى فى حرف الياء والسكون الطبيعى على العين فيقول ضى / يع/ ت ولا يقول ضاى / ياع / ت ، ويظهر حرصه هذا فى بداية الكوبليه أيضا عندما يقول عل / لم / تنى ، ولا يقول عال / ليم / تنى ، وواضح أن تركيب الكلمتين اللفظى متناظر ، ولذلك جاء نطقهما فى الغناء متناظرا أيضا

من أين لسيد درويش هذه القدرة على بيان اللفظ وإظهار تركيب حروفه بالتشكيل المكتوب والمنطوق؟ ثم لماذا حرص على هذا البيان؟ ، الحقيقة أنها قدرة وحرص يكتسبهما القارئ للقرآن الدارس لعلم التجويد ، وهو علم إظهار الحروف ومدها أو إضغامها أو إخفائها ، ولا عجب فهو “الشيخ” سيد درويش ! بالطبع كسر سيد درويش هذه القاعدة فى نهاية البيت وتفسير ذلك سيأتى فى حينه

فى التعبير ذكرنا كبف كان تعبير سيد درويش عن الصيحة المتالمة فى بداية النص وكيف مهد لها موسيقيا

وفى التعبير عن جملة “وازداد علىّ اللوم … ” فى الشطرة الثانية قد نتساءل لو أن المراد هو التعبير فهل نعبر عن اللفظ المطلق أم عن المعنى والحالة النفسية؟ ولو نظرنا إلى كلمة “وازداد” لفظا فهى تفيد الزبادة والترجمة الحرفية لهذه الزيادة موسيقيا هى بالزيادة أيضا بالصعود على السلم وليس بالهبوط عليه ، وقد يفعل ذلك ملحنون كثيرون فى محاولة التعبير عن الكلمات ، لكن سيد درويش فعل عكس ذلك ، فقد نزل بهذه الكلمة إلى آخر السلم ، وأعتقد أن المغزى واضح من هذا السياق فهو قد قصد التعبير عما يحدث للإنسان إذا زاد عليه الضغط فخارت قواه وأحس بنهاية أمله

أما فى كلمة البغددة فى آخر البيت الأول فمعناها اصطلاحا فى العامية المصرية الدلال والتمنع ، ويقال فيها تعبير معروف لدى المصريين يقول أحدهم للآخر ” ح تتبغدد علينا وللا إيه.. ؟!” فى إشارة عاتبة إلى إهمال طرف لآخر وتعاليه رغم تقربه منه ، وهذا بالضبط هو موضوع الدور كله الذى يلحنه سيد درويش ، إذا فالكلمة هامة وتختزل معانى بقية الأبيات ، فكيف يتعامل معها الشيخ سيد ، إنه أولا يدللها فيمد فى أدائها ، ويهيئ بهذا الدلال اللفظى صورة لدلال المحبوب تظهر فى تلوى الكلمة على محور كاللولب لا تعرف من أين يمسك! وهو هنا يمد ويلوى فى اللفظ الذى لا تتحمل حروفه ذلك ولا تشكيله ، فيكسر قاعدة التعامل مع الألفاظ التى أشرنا إليها فى سبيل التعبير عن الموقف والمعنى ، نأتى عندئذ لنهاية هذه الكلمة كيف ينتهى موقفها؟ بعد الحركة اللولبية العنيفة ، وكلها فى حرف الدال الأولى ، يأتى الختام بمد نسبى على نفس الحرف قبل أن ينهى الموقف كله فى آخر حرفين ” دة ” فيقف بهما على السكون المقطوع على آخر السلم فكأنه قد مد اللولب إلى آخر عزمه ثم أطلقه ليصيب هدفه ، مشيرا إلى تكملة التعبير عن جملة “وازداد علىّ ” أى زاد الأمر حتى أصبحت كمن أصابه سهم فتوقف تماما عن كل شيء قد يتساءل أحدنا هل كان كل ذلك فى ذهن سيد درويش أثناء عملية التلحين؟ الإجابة نعم ولا ، فمن المؤكد أنه قصد التعبير بذلك الأسلوب أما التشبيهات فهى أدوات يستعملها الناقد لتقريب الصورة

الأداء

ولنستمع إلى أداء سيد درويش فى هذا المطلع ، تعجب كثيرون من أدائه على هذا النحو ، وقد اتضحت لنا حتى الآن مبررات كافية لكن هناك إضافة تعبيرية ، إن أداء سيد درويش يختلف عن أداء غيره لنفس اللحن ، وقد أشرنا فى موضع سابق إلى أنه سجل جميع أدواره بنفسه ما عدا دورا واحدا لم يتمكن من تسجبله قبل وفاته ، ولابد من أنه كان فى ذهنه شيئ يعلم أنه قد بضيع فى أداء الآخرين لأنه أول من يعلم أن صوته ليس صوت المطربين ، وإذا استمعنا إلى أول كلمة فى هذا الدور وكيف يؤديها نجده يصيح كمن عض أنامله ! ضيعت .. إنه الأسف والندم والحيرة والألم ، إنه فى غاية الانفعال بهذه الأحاسيس ، والواقع أن انفعال الشيخ سيد شيء نادر الوجود فى عالم الغناء ، والمتتبع للحظات انفعالاته القوية فى ألحانه يشعر بأن الرجل يكاد يذوب فى الكلمات

إلى هنا مازلنا فى البيت الأول .. وللحديث بقية!

تحليل موسيقى: د.أسامة عفيفى

 

5 responses to “ضيعت مستقبل حياتى – تحليل موسيقى

  1. حلوة

    جانفي 29, 2010 at 12:48 م

    افادني هذا التحليل كثيرا في دراستي لمقام البياتي ,فشكرا جزيلا لكم.

     
  2. إلياس

    فيفري 9, 2011 at 8:26 م

    يا دكتور أسامة أكمل من فضلك تحليل هذا الدور فأنا أستحقه كي يساعدني على إنجاز رسالة الدكتوراة في الموسيقى العربية موضوعها حول الأدوار في الموسيقى العربية

     
    • arabianmusic

      فيفري 15, 2011 at 10:11 م

      أستاذ إلياس .. تحياتنا إليك ، نعدك باستكمال التحليل فى أقرب فرصة ونتمنى لك النجاح والتوفيق

       
      • إلياس بودن

        جانفي 17, 2013 at 11:33 ص

        يا دكتور أسامة لماذا إلى يومنا هذا لم تواصلوا تحليل هذا الدور فأنا أستحقه كي يساعدني على إنجاز رسالة الدكتوراة في الموسيقى العربية موضوعها حول الأدوار في الموسيقى العربية

         
      • arabianmusic

        جانفي 18, 2013 at 5:35 ص

        صدبقنا العزيز الأستاذ إلياس
        أولا نعتذر لك طبعا عن التأخير لكن تعلم أن المنطقة العربية عموما قد اجتاحتها أحداث دامية خلفت قلقا وعدم استقرار لا يشجع بالمرة على تناول الموضوعات الفنية بذلك التركيز والاستغراق كما كان الحال من قبل، إلا إن كان أمرا لازما للعمل أو الدراسة كما هو الحال معك .. فنحن نمارس عملنا هنا وفى مواقع أخرى من منطلق حب الفن لا أكثر ، ولا نبغى من وراء ذلك جزاء أو شكورا
        ثانيا ، مع طول المدة قد تبادر إلى ذهننا أنك قد انتهيت من دراستك واكتفيت ربما بما تقدم من بحث فى هذا الموضوع، لكنا سعداء بأنك مازلت على الدرب وأن الفرصة ما زالت مواتية لإكمال دراسة الدكتوراة
        وعلى هذا نرجو تقبل عذرنا فى التأخير وهو خارج عن الإرادة، ونجدد لك الوعد مع تمنياتنا لك بكل التوفيق، وربما إذا عرفتنا بنفسك أكثر قليلا يمكن أن يكون بيننا اتصال أكثر سرعة وإنجازا، لذا نرجو منك إن أمكن توضيح مكانك وبأى معهد تدرس والمجال الذى تعمل به وشكرا لك

         

أضف تعليق